السبت 2024-12-14 05:30 ص
 

وهم التفوق الحضاري

12:31 م

الوكيل - غداة تظاهرات 30 حزيران / يونيو 2013 في مصر رحنا نسمع ونقرأ عبارات عنصرية ما كانت مألوفة في مصر على الاطلاق، ولا سيما في عهد الرئيس جمال عبد الناصر. وقد طالت هذه العبارات الفلسطينيين والسوريين بالدرجة الأولى، لأن مجموعة من الفلسطينيين وُجدت تدافع عن مقر جماعة الاخوان المسلمين في المقطم، ولأن مجموعة أخرى من السوريين شاركت في التظاهرات دعمًا للرئيس السابق محمد مرسي. ووصل الأمر بأحد المصريين ليتمنى على الاسرائيليين إبادة الفلسطينيين جميعهم، ولم تتورع السلطة المصرية الجديدة عن اتخاذ اجراءات قاسية لعرقلة دخول السوريين إلى مصر. وفي خضم تلك الحملة العنصرية الهاذية ارتفع الكلام على التفوق الحضاري المصري على العرب و’على العربان’ والجيران. اضافة اعلان

لنفحص بروية ظاهرة العنصرية المصرية المتسربلة بالتعصب والكراهية، وهي ظاهرة محدودة في أي حال. إن العنصرية إنما هي مرض خطير يصيب بلداناً في فترات الأزمات. وفي جميع الحالات فإن هذا المرض ينخر عظام المجتمع نفسه ويؤثر فيه أكثر ما يؤثر في الجماعات التي تتوجه العنصرية إليها بسمومها، وهو يدل دائمًا على هشاشة الجماعة الوطنية. هذا ما حدث في ألمانيا وفي الولايات المتحدة الأميركية وفي تركيا العثمانية، وهو ما يحدث اليوم في لبنان وفي مصر للأسف. وقد دفعت هذه المجتمعات أثمانًا قاسية جراء عنصرية جماعات، ولو محدودة، من شعوبها. لنقلب الصورة قليلًا: أَلم يتظاهر مصريون ضد النظام السوري تأييدًا للمعارضة السورية؟ أَلا يقاتل مصريون اليوم في سورية ضد النظام الحاكم؟ ومع ذلك لم يرد السوريون المؤيدون للنظام بكراهية المصريين والدعوة إلى طردهم وسحقهم.
إن مرض الاستعلاء العنصري الذي يقوم على خرافة التفوق الحضاري على الأقوام المجاورة هو مرض منقلب من عقدة الخصاء الحضاري، ومن الشعور بالخوف من العرب، ويتضمن الكراهية المستترة لهم. وما الثرثرة الدائمة عن حضارة سبعة آلاف سنة إلا كلام فارغ ولغو معتاد تتقنه مجموعات التبجح والفهلوة. العراق، على سبيل المثال، سبق مصر في اختراع الكتابة (السومريون والحرف المسماري أقدم من الرسم الهيروغليفي)، وعندما سقطت بغداد في 9/4/2013 هاجم العراقيون ‘أحفاد السومريين’ متاحفهم وحطموها وسرقوها وباعوها بقليل من الدولارات. فما علاقة العراقيين الرعاع هؤلاء بأجدادهم السومريين؟ هكذا فعل بعض المصريين في أثناء ثورة 25 يناير حين اقتحموا المتحف المصري القريب من ميدان التحرير وسرقوا ما استطاعوا. وهذا كان ديدن كثيرين من المصريين طوال مئتي سنة على الأقل حين لم يتورعوا عن سرقة آثارهم ونشر ما لا يستطيعون حمله بالمنشار لبيعه الى الأجانب لقاء جنيهات قليلة أو كثيرة. ولولا شامبليون، وهو غير مصري، لما اكتشف أحد من المصريين مفتاح الكتابة الهيروغليفية في حجر رشيد، ولظل هذا الحجر مرميًا في العراء إلى أمد طويل.

الانقطاع الحضاري

المعروف في الدراسات التاريخية والحضارية، أن الشعوب تمر بانقطاعات حضارية متكررة، بعضها حاد يفصل الحاضر عن الماضي بأسوار صينية متينة، وبعضها حاسم يحفر انهدامات عميقة بين ما جرى وما يجري. وقد خضعت مصر لهذه القاعدة مرات عدة. فمنذ سنة 945 قبل الميلاد انتهت مصر كدولة مصرية، وتعاقب على حكمها اللوبيون فالنوبيون ثم الأشوريون فالفرس فالبطالسة الاغريق ثم الرومان والعرب والمغول، فالفاطميون السوريون والأكراد الأيوبيون فالشراكسة ثم العثمانيون و الألبان من أسرة محمد علي ثم الانكليز إلى أن عادت مصر الى شعبها مع جمال عبد الناصر. والحضارة المصرية القديمة انتهت نهائيًا مع تحوُّل مصر إلى المسيحية في القرن الخامس ميلادي. ومع هذا التحول جرى تدمير كثير مما بقي من حضارة مصر القديمة، وحُرقت الكتب والمكتبات (مكتبة الاسكندرية) ومراكز العبادة. وكانت مصر غيّرت ديانتها مرات عدة: من عبادة رع إلى عبادة آمون فإلى عبادة أتون (وهي ديانات مصرية خالصة)، ثم تحولت إلى المسيحية ثم إلى الاسلام (وهما ديانتان من خارج مصر). ودب الانحطاط الديني فيها مبكرًا: فمن عبادة رع وآمون وأتون (وهي عبادات راقية) إلى عبادة العجل ‘أبيس′ والحداد على القطط الميتة وعبادة التمساح ‘سبك’ (سمك). ولم تتقبل مصر المسيحية، وهي دين آرامي سوري، إلا بالتدريج، ولأن ثمة تشابهًا في بعض الرموز المقدسة: فالثالوث المسيحي يشبه الثالوث المصري (إيزيس واوزيريس وحورس)، ومفتاح الحياة المصري يطابق الصليب، وصورة مريم وهي تحمل المسيح ما هي إلا نسخة جديدة لصورة إيزيس وهي تحمل حورس، ومريم حملت بروح القدس مثل إيزيس التي حملت بروح أوزيريس.
مهما يكن الأمر، فليس الفتح العربي هو ما أدى إلى انقطاع مصر عن حضارتها القديمة كما يروّج العنصريون في مصر اليوم، لأن مصر كانت قد نبذت تاريخها القديم والعظيم مع التحول إلى المسيحية. أما تخريب المعابد القديمة فلم يقم به العرب الفاتحون بل المصريون ولا سيما المصريون المسيحيون. والصراع بين المسيحية والوثنية في مصر هو الذي قضى على اللغة المصرية القديمة والرسم الهيروغليفي وأضاع مفتاح الكتابة. والبطريرك ثيوفيلوس هو من طلب الإذن من القيصر ثيودوسيوس في سنة391 لتخريب أكبر أكاديمية علمية في مصر، وحرق المكتبة فيها، أي السيرابيون. وفي منتصف القرن السادس ميلادي، كما هو معروف، أرسل الامبراطور جوستنيان قائدًا يدعى نرسيس إلى جزيرة ‘فيلة’ فقضى على آخر الكهنة الذين كانوا ما يزالون يكتبون بالهيروغليفية، وقد انتهت الهيروغريفية نهائيًا منذ ذلك الوقت. وفي هذا الشأن يقول جمال حمدان في كتابه ‘شخصية مصر’: اليوم لم تعد مصر الفرعونية إلا مكدّسة في المتاحف أو معلقة كالحفريات على سفوح الهضبتين. أما في الوادي فقد انقرضت كما انقرضت من قبل تماسيح النيل من النهر. ولهذا ننتهي إلى أن حضارة الفرعونية قد ماتت في مجموعها’.
ميزة مصر أن شعبها بقي هو هو طوال ستة آلاف سنة، وظلت طريقة عيشه هي هي فوق شريط الخضرة الممتد على ضفتي النيل. فنمط حياة المصريين متشابه ومتكرر، ويكاد يكون مستمرًا منذ آلاف الأعوام؛ فالثابت الوحيد، بهذا المعنى، هو الشعب، مع أن هذا الشعب نفسه بدل ديانته مرات، وبدل حكامه كثيرًا. غير أن هذا الشعب خضع لقانون الانقطاع الحضاري عن تاريخه القديم مرات عدة، وخضع لانقطاع نفسي ومعرفي طويل عن حضارته القديمة. لكن قوة الثبات والاستمرار جعلت مصر تمتص المهاجرين إليها وتمصّرهم، تمامًا مثل الشام، مع أن بيئة الشام متنوعة، ففيها سواحل وجبال وسهول داخلية وجبال داخلية وأرياف ومدن متحضرة ومناطق زراعية تفصل البادية عن الأرياف وبوادٍ متصلة بالداخل العربي من خلال القبائل المتنقلة. وهذا الاختلاف في البيئة ينعكس في الفن المعماري وفي النقوش التزيينية وفي التماثيل. فالفن المصري يمتاز بالضخامة والهيبة، لكن موضوعاته محددة وخطوطه بسيطة، وهي تدور، في العموم، على الاله والأسرة الحاكمة وطقوس العبادة والموت والحساب… الخ. أما الفن السوري القديم، والعراقي أيضًا، أي الأشوري – الآرامي، ففيه من التنوع في الموضوعات والأشكال ما لا يحصى، وفيه من الحرفة والدقة والتفصيلات ما يتطلب جهدًا فرديًا مميزًا لتنفيذه، بينما التماثيل المصرية، على سبيل المثال، تتطلب جهدًا جماعيًا بالدرجة الأولى. إن مقارنة أولية بين التماثيل المصرية والتماثيل السورية أو العراقية تُظهر التماثيل المصرية كتلة كبيرة من الحجارة ذات خطوط بسيطة، بينما الأسد المجنح العراقي أو تماثيل عشتار السورية ففيها من تفصيلات الجسد والعنق والوجه ما يحتاج جهدًا هائلاً في التخطيط ودقة في تنفيذ التفصيلات وخيالًا جامحًا في تصميم الفكرة الأولى. والحضارة السورية، والعراقية أيضًا، فيها فكرة موت الإله وقيامته، بينما الإله في الديانات المصرية، وفي اليهودية كذلك، لا يموت. والاحتفاء بالموت لدى المصريين القدماء أكثر بكثير من الاحتفاء بالحياة؛ فالمصريون لا ينتظرون الموت مثل جميع الشعوب بل يستدعونه، وهذا هو سرّ تقديس الماضي بطريقة مبالغ فيها لدى المصريين اليوم، في الوقت الذي لا توجد علاقة ارتباط حقيقية بين المصريين المعاصرين والحضارة المصرية القديمة العظيمة. وقد برع المصريون القدماء في عملين هما الطب والهندسة. لكن الدافع الأساس كان خدمة الموت: الطب للتحنيط والهندسة لبناء المقابر. وكان العلم لديهم عمليًا وليس عقلياً، خلافًا لليونانيين الذين أخذوا عن المصرين الكثير، لكنهم تجاوزوهم في الميدان العقلي. فيثاغورس مثلًا، وهو من صيدا، أخذ عن المصريين علم الهندسة لكنه طوّره إلى إطار نظري جديد، ووضع ما يسمى ‘البرهان’، وعلى البرهان قام ‘المنطق’. واللافت ان نظرية فيثاغورس المشهورة كانت معروفة تطبيقيًا في مصر (وفي بابل أيضًا) قبل ألف عام من ميلاده. ومع ذلك لم يتمكن المصريون من تحويل المعارف التطبيقية إلى معارف تجريدية نظرية قائمة على البرهان. ثم جاء أوقليدس ليؤسس علمًا نظريًا خالصًا في الهندسة مازال صحيحًا في جوانبه الأساسية حتى اليوم. بينما لم يبتدع المصريون القدماء أي نظرية في الطب أو الهندسة، بل أبدعوا مجموعة من الأساطير الجميلة تدور كلها على الحكم والآلهة مثل رع (إله الشمس) وآمون وأوزيريس (العزيز =إله النيل= إله الخصب) وإيزيس (العزى= إلهة الحب والشهوة)…الخ، وهذه كلها معالم عظيمة لحضارة عظيمة. غير أن ما يؤسسه بعض المصريين الجهلة اليوم ليس فيه أي وجه من وجوه تلك الأساطير ، بل مجرد خرافات بالية، ومنها خرافة التفوق الحضاري على الآخرين.

أمُّ العرب

إذا كانت مصر أمَّ العرب، وهي كذلك، فإن هؤلاء العنصريين الجدد يبددون هذا الميراث الكبير، ويطبقون مقولة أرنست رينان عن أن ‘صناعة وطن تقوم على تزوير تاريخه’. لكن مصر لا تحتاج إلى ‘صناعة وطن’ كما احتاجت كيانات مخترعة مثل الأردن والكويت ولبنان ومحميات الخليج؛ فهي وطن عريق وقائم بذاته. فلماذا يجري اختراع أوهام مبتذلة وخرافات عنصرية؟ صحيح أن النهضة في مصر التي انطلقت في أواخر القرن التاسع عشر ساهمت في تحفيز الثقافة المعاصرة في المشرق العربي، وكان للصحافة المصرية وللمفكرين المصريين ولجامعة فؤاد الأول (القاهرة لاحقًا) شأن كبير في انفتاح الأذهان في العالم العربي، وفي تعليم كثير من العرب ولا سيما أبناء الخليج العربي، لكن يجب ألا ينسى أحد أن سوريا (وبالتحديد لبنان) هي التي شهدت تأسيس أول جامعة في العالم العربي، وهي الكلية الانجيلية السورية (1866) التي تحول اسمها في ما بعد إلى ‘الجامعة الأميركية في بيروت’. وفي سنة 1875 ظهرت جامعة القديس يوسف (الجامعة اليسوعية)في بيروت أيضًا. وفي سنة 1903 أُسست النواة الأولى للجامعة السورية التي تكاملت كلياتها بالتدريج منذ سنة 1919 فصاعدًا، بينما تأخرت الجامعة المصرية إلى سنة 1908 لتظهر في ما بعد كأحد معاقل الثقافة العربية.
إن تشديد بعض المصريين على أنهم هم الذين علَّموا العرب، وإلحاحهم على ضرورة اعتراف العرب بهذا الفضل وضيقهم بمن لا يعترف به، هو نوع من عقدة الخصاء أمام انحسار دور مصر الثقافي والسياسي في العالم العربي، بل إنه يشبه ‘تلك العجوز التي تضيق بمن حولها الذين لا يتذكرون جمالها حين كانت صبية’ (أنظر مقال ابراهيم عيسى،’ هل مصر صاحبة فضل على البلاد العربية’، موقع مصرنا، 12/1/2009). وحتى في مجال التعليم، فقد زال ‘الانبهار ‘العربي بمصر مع انتشار التعليم في جامعات الدول العربية، وحين تنافس وجهًا إلى وجه في أقطار الخليج العربي الطبيب المصري والمهندس المصري والمعلم المصري والصحافي المصري مع الأطباء والمهندسين والمدرسين والصحافيين اللبنانيين والسوريين والفلسطينيين، وكانت النتيجة، في معظم الأحيان لمصلحة الشوام، لأن الدور المصري المشهود في الثقافة العربية، وفي التعليم والسياسة أيضًا، تأكّل كثيرًا منذ نحو خمسين سنة على الأقل. فلا الصحافة المصرية بقيت على مكانتها، ولا السينما المصرية ظلت حكرًا على القاهرة واستوديوهاتها، ولا الدراما المصرية استمرت من دون منافس، ولا الابداع الشعري والفني والفكري في مصر حافظ على موقعه، وما عادت مصر هي الرائدة في ذلك كله. ولعل أسباب التراجع في دور مصر كثيرة أبرزها: فقدان الموقع القيادي بعد انفكاك الوحدة السورية المصرية في سنة 1961 وهزيمة الخامس من حزيران 1967، ثم التحول السياسي الخطير الذي دشنه الرئيس أنور السادات بعد حرب تشرين الأول 1973، الأمر الذي أدى إلى عزلة مصر عن العرب ولا سيما بعد زيارته القدس في سنة 1977، وعلاوة على ذلك انحطاط التعليم الجامعي وما قبل الجامعي، وظهور الرثاثة في المجتمع المصري، وغلبة الاسلام السياسي على هذا المجتمع، وكذلك صعود دول المغرب العربي في المشهد الثقافي العربي، وصعود دول النفط في المشهد السياسي.

مصر والشام

إما أن تكون مصر دولة مهمة دائمًا أو أن تتدهور مكانتها باستمرار ويتأكّل دورها. ومصر إما أن تمتلك مشروعًا للنهضة أو للتحرر القومي أو أن تصبح دولة عادية خاضعة لجدل زيادة السكان وتقلص الموارد (50 ‘ نسبة الأمية، 250 دجالًا وطبيب واحد لكل عشرة آلاف مواطن). ومصر من دون الشام تضعف، ومع الشام تصبح قوية جدًا. هذا هو درس التاريخ منذ زمن الفراعنة حتى جمال عبد الناصر. وحين تمتلك مصر مشروعًا للنهضة كما جرى في بدايات القرن العشرين، أو مشروعًا للتحرر الوطني بعد ثورة 1919، أو مشروعًا للتحرر القومي وللوحدة القومية بعد ثورة 23 يوليو 1952، فإن مصر تتحول بسرعة إلى مركز جاذب للعرب، ولا سيما أن موقعها الجغرافي يُمثل الجسر الثقافي والحضاري بين الغرب والشرق؛ اي بين البحر المتوسط والهند على طريق التجارة القديمة (برزخ السويس ثم قناة السويس)، ويُمثل في الوقت نفسه نقطة المحور في الامتداد الحيوي بين افريقيا والشام.
بدأت النهضة العربية المعاصرة في مصر والشام معاً. لكن مصر، بعد هجرة الشوام إليها هربًا من العسف العثماني، باتت الاقليم الأكثر انتاجًا في الثقافة والفكر والفن. وكان للعرب، خصوصًا الشوام، سهم كبير في النهضة المصرية الحديثة التي كفت عن التجدد وغار فيها معين الابداع بعد هزيمة حزيران 1967. وليس ردًا على العنصريين الجدد القول إن للشوام فضلًا كبيرًا على النهضة المصرية، إنما هي وقائع التاريخ التي تذكر اسهام العرب في الحياة الفكرية والثقافية والفنية لمصر. ففي السينما على سبيل المثال لمع كل من أنور وجدي (اسمه الأصلي أنور فتال وهو من حلب) وماري منيب وعمر الشريف وسعاد حسني وشمس البارودي ورغدة وهنري بركات ورفيق الصبان (وهؤلاء جميعًا سوريون)، وكذلك ماري كويني وآسيا داغر وزوزو ماضي ويوسف شاهين وبشارة واكيم (هؤلاء لبنانيون)، وجبرائيل تلحمي وبدر لاما وعبد السلام النابلسي (من فلسطين). وفي الغناء اشتهر من سورية فريد الأطرش واسمهان وفايزة أحمد ونجاة الصغيرة وفتحية أحمد وميادة الحناوي، ومن لبنان نور الهدى ولور دكاش وصباح ونجاح سلام، وفي الموسيقى برز كل من اسكندر شلفون وفريد غصن من لبنان، ويحييى اللبابيدي من فلسطين وسامي الشوا من حلب، حتى زكي مراد وابنه منير مراد وابنته ليلى مراد هم من يهود حلب المهاجرين إلى الاسكندرية. وفي المسرح ظهر زكي طليمات من حمص وأبو خليل القباني من دمشق وبديعة مصابني من دمشق ومارون النقاش وجورج أبيض من لبنان، ونجيب الريحاني من العراق (اسمه الاصلي نجيب ريحانة). وفي الرقص، علاوة على الدمشقية بديعة مصابني برزت ببا عز الدين من دمشق أيضًا وألمظ من لبنان (اسمها ألماظة) وتحية كاريوكا من الحجاز. حتى الصحافة قامت على أكتاف اللبنانيين وأقلامهم بالدرجة الأولى أمثال سليم تقلا وبشارة تقلا وأنطوان الجميل (الأهرام) ويعقوب صروف وفارس نمر (صاحبي المقطم) وجرجي زيدان (صاحب الهلال)، وروز اليوسف وشاهين مكاريوس (من لبنان) وعادل الغضبان (من حلب)… وغيرهم كثيرون. ولا ننسى شبلي الشميل وفرح انطوان ومي زيادة ورفيق جبور ورشيد رضا ومصطفى صادق الرافعي (من لبنان) وألبير قصيري (من بلدة القصير السورية) وبيرم التونسي (من تونس) وعلي أحمد باكثير (من حضرموت) ووردة الجزائرية (من الجزائر)، فهؤلاء جميعًا تمصروا، ودمجتهم مصر في مرجلها الجميل، وهم بدورهم كانوا تعبيرًا عن التلاقح العربي المصري وعن ثماره النافعة، فنقلوا إلى مصر من أوطانهم الأولى خمائر ثقافية، تمامًا مثلما نقل الهكسوس السوريون الدولاب إلى مصر قبل 3800 سنة.

بين الفضل والتبجح

ثمة اذاً فضل للعرب على النهضة المصرية، وهو فضل عميم. ومع ذلك لا أعتقد أن هناك عربيًا واحدًا تجرأ على التغني بهذا الفضل بطريقة عنصرية، أو تبجح به من باب ذم المصريين. فالحديث يدور عادة على هجرة الشوام إلى مصر، وعلى منجزاتهم الابداعية في أرض الكنانة التي احتضنتهم ووفرت لهم الحماية، وأفسحت في المجال أمامهم كي يعملوا في التجارة أو السياسة أو الصحافة. ولا ريب في أن لمصر فضلاً على هؤلاء. لكن، ومن باب المقارنة، لم نسمع يومًا، أن الأميركيين تغنوا بفضلهم على ألمانيا لإنقاذهم إياها من النازية، او على أوروبا حين وضعت أميركا مشروع مارشال لإعادة بناء أوروبا بعد الحرب، او على فرنسا لتحريرها من الاحتلال الألماني. ولم نقرأ للروس كلامًا يسرد جمائلهم على الصينيين حين ساعدوهم في خطة الإقلاع الاقتصادي والعلمي في سنة 1950. ولم يطرق أسماع أي عربي، في حقبة جمال عبد الناصر.
يتساءل ابراهيم عيسى: ‘هل مصر فعلاً صاحبة فضل على البلاد العربية؟’، ويجيب بطريقة السؤال الاستنكاري قائلاً: ماذا قدمت مصر لليبيا خلال الحصار الدولي عليها وإبان القصف الأميركي لأراضيها؟ ماذا قدمت مصر للسودان لمنع انفصال الجنوب او للاجئين السودانيين الهاربين إليها والذين يُقتلون بالرصاص المصري على الحدود المصرية حين يحاولون التسلل إلى اسرائيل؟ ماذا قدمت مصر للعراق غير التواطؤ مع أميركا على غزوه في سنة 1991 وفي سنة 2003، ونالت لقاء ذلك إسقاط الديون الخارجية المصرية لأميركا؟ ما فضل مصر على لبنان إلا تسعير الحرب الأهلية بعد اتفاق كامب دايفيد في سنة 1978، والتفرج على اسرائيل وهي تحتله في سنة 1982؟ ما فضل مصر على دول الخليج العربي؟ لا شيء؛ فقد ذهب المصريون إلى العمل في هذه الدول رغبة في النقود وليس في العروبة، ونصف بيوت أقاليم مصر بُنيت بأموال المصريين الذين عملوا في دول الخليج العربي. وماذا فعلت مصر لفلسطين؟ شاركت في حرب 1948 لحسابات داخلية وبعد تردد، فأضاعت فلسطين، ثم شنت حرب تشرين الأول 1973 في سبيل استعادة سيناء وليس من أجل فلسطين (راجع: ابراهيم عيسى، المصدر المذكور سابقًا). والحقيقة أن مصر جمال عبد الناصر فعلت الكثير لفلسطين وساهمت في تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية، ودعمت حركات التحرر الوطني في تونس والمغرب، واحتضنت ثورة الجزائر وثورة الجنوب اليمني، وحمت الكويت من عبد الكريم قاسم، وانقذت سورية في سنة 1958 من السقوط في براثن حلف بغداد… الخ. أما مصر أنور السادات وحسني مبارك فلم تقدم أي شيء ايجابي على الاطلاق، بل إن السادات أدار ظهره للعرب وأخرج مصر من الصراع العربي الاسرائيلي وجعل اسرائيل تستفرد ببقية العرب، وشارك في إذكاء الحرب الأهلية اللبنانية، وتفرج على الاجتياح الاسرائيلي للفلسطينيين في لبنان في سنة 1978 وفي سنة 1982. أما حسني مبارك فيكفيه أنه كان ‘المسهّل’ الأبرز للحرب الأميركية على العراق في سنة 2003.

***
إن مصر تعظم بالعرب، وتصغر من دونهم. أما العنصرية فهي الداء الذي يحول فعلاً دون عودة مصر إلى موقعها الريادي المشهود له في التاريخ القديم والتاريخ المعاصر. وإذا تمكنت العنصرية من أن تحفر لها مكانًا في الثقافة المصرية أو في الفكر السياسي المصري، فهذا يعني ان الانحطاط بلغ القاع في مصر. وبدلاً من أن تصدر مصر إلى العرب أعلاماً كباراً في الفكر والثقافة والفن والعلم والسياسة كما كان شأنها في عصر النهضة، ستنثني إلى تصدير كائنات من كهوف الماضي الكالح أمثال أيمن الظواهري وخالد الاسلامبولي وعمر عبد الرحمن ويوسف البدري وأبو الليف وشعبان عبد الرحيم ومن هم على غرارهم من العنصريين الجدد.


 
gnews

أحدث الأخبار



 




الأكثر مشاهدة