الجمعة 2024-12-13 06:53 م
 

التشكيلي المغربي امبارك بوحشيشي: شعرية الأثر المفتوح والمُتَرَحِّل

01:34 م

الوكيل - ترسم تجربة الفنان امبارك بوحشيشي لنفسها مكانة استثنائية داخل المشهد التشكيلي المغربي المعاصر، وذلك بالنظر إلى قوة إبداعه وتنوع معارضه الوطنية والدولية. وأيضاً إلى سعة فكره وشحذ خياله.اضافة اعلان

فهذا الفنان الجنوبي -المزداد ببلدة أقا/ قرب طاطا عام 1975- يبدع لوحات صباغية تندرج ضمن التجريد الحركي’الأكشن’ Action painting الموسوم بالتضمين المباشر للأثر القائم على البلاغة الحسية للمفردة اللونية بشكل يتلاءم (نسبياً) مع المتن الأفلاطوني في فهمه المبكر للعلاقة بين الحسي والمجرَّد.
أعجب الفنان بوحشيشي خلال بداية مشواره الفني بفنانين عالميين تميَّزوا بمعالجتهم للأثر، أمثال جان ميشال باسكيا J. M Basquiat، وسي تومبلي Cy Twombly، وبرنارد فينيت B. Venet، وروبيرت كومباس R. Combas..
ويشكل عام 2003 انعطافة كبيرة في مساره التشكيلي بعد أن تأثر بالفنان وأستاذ الصباغة الفرنسي كاساد Cascade. من ثم صارت له طريقته التعبيرية الخاصة في معالجة اللوحة وصياغتها اعتماداً على خلق تراكيب لونية متراكبة ومتعارضة تسودها فراغات وبياضات بفعل تكثيف الاشتغال في الجزء الأعلى من القماشة.
هو هكذا أسس مشروعه الجمالي الذي يروم من خلاله بناء فضاء بصري تقوى حسيته على ماديته، بتفاصيل غير متوقعة أساسها الشسوع والامتداد، بدءاً من خلق علاقات مرئية تبادلية، هي في الأصل لحظات عابرة، هاربة، غير منتظمة، لكنها -بالتأكيد- موثقة توثيقاً أيقونياً يمنحها صفة الخلود والبقاء..يا للمفارقة!!
صيغة تشكيل لوحاته حركية بامتياز، تمتح سماتها الأساسية من التعبيرية التجريدية والفن اللاشكلي Informel الرافض لكل شيء ساكن وراكد، كما هو الحال لدى مجموعة من رواده العالميين أمثال: وليم دي كوننغ، مارك روثكو، مارك توبي، هانز هارتونغ، اد راينهارد، أدولف كتلب، بارنيت نيومن، روبرت مذرويل، فيلب كستان، فرانز كلين..وغيرهم من الفنانين المؤسسين الذين تناولهم الناقد الفني الأمريكي كلفرد روس في كتابه الموسوم ‘التعبيريه التجريديه: فنانوها ونقادها’ المنشور عام 1990 واصفاً أسلوبهم التشكيلي بكونه خليطاً من أساليب مدارس وتيارات فنية عديدة.
إنها سرمدية معبَّر عنها ضمن تكوينات طيفية ممتدة ناتجة عن سكب الصبغ مباشرة من الأنبوب، ما يجعل لوحاته مشحونة بكثافة لونية ترسم في تضادها وتباينها مجموعة من المشاعر والمساحات البصرية التي يثيرها أسلوبه التلويني الجامع بين الكثيف والشفيف..المعتَّم والمضيء..إلخ. من ثم أمسى سياق معالجته للسطوح والكتل والأبنية اللونية بعداً أنطولوجياً للتجريد يبحث في ممكنات المضمرات والضمنيات عبر استبصار الباطن وجعل التصوير ‘داخل الخارج وخارج الداخل’، على حَدِّ تعبير الناقد مرلو بونتي صاحب كتاب: ‘العين والرُّوح’.
هي بلا شك شعرية لونية نابعة من الارتماء في تجريد حداثي، ما بعد رسموي، يستوعب الحيز التشكيلي آثاراً وألواناً وبصمات مطبوعة بفراغات مريبة وطلاوة لونية ذات حيادية صامتة وملامس نافرة تمتد لتداعيات الحركة واندفاعاتها العبثية. هذه الشعرية تبدأ لدى الفنان بوحشيشي من إيمانه الراسخ بأهمية الحركة في الخلق الفني، وهو بذلك يتقاطع مع الفنان جوزي رافائيل سوتو الذي يرى بأن ‘العالم في حركة دائمة’، وبكون ‘الفن الذي لا يتحرَّك لا يمثل الواقع′.
طريقة اشتغاله مثيرة تعكس تحرُّره من قيود تأليف اللوحة الكلاسيكية، إذ لا وجود لمِسند Support يرغمه على سلك اتجاه واحد. فكل الاتجاهات والمنافذ تستجيب لفنه ولانفعالاته في ترجمة هذا الفن. إنه في -هذه الحالة- ‘يشبه’ جاكسون بوللوك J. Pollock مبدع التجريدية الغنائية الذي صرَّح غير ما مرة بأن رسوماته لا تنشأ على حوامل، إذ نادراً ما تستطيل القماشة لديه من عملية الرسم. فهو يميل إلى تثبيت القماشة على الأرض أو الحائط، ويكون بحاجة إلى ردِّ فعل السطح الصلب.
فالفنان بوحشيشي يشتغل على هذا المنوال، بأدواته الخاصة وبأسلوبه الخاص الذي يُشعره بالاقتراب والانتماء للوحاته ويستطيع حينئذ الدوران حول القماشة ومعالجتها من الجوانب الأربعة. هو هكذا داخل المرسم كائن متحرِّك ينمو بدينامية ضمن سلسلة من الاشتغالات المتتالية القائمة على الفعل الذي يعني بالنسبة له حركة وجهداً فكرياً وجسدياً في آن.
هو ذا قوام الرسم الحركي وأساس الاشتغال على مفهوم الزمن كحركة أبدية، كما هو الشأن (تقريباً) لدى أنطونيو تابيييس وفرانز كلين اللذين تعكس العديد من أعمالهما الصباغية ذبول الزمن الدائر في فلك المكان.
أسلوبه المستعمل في صياغة اللوحة كثيراً ما يشيح عن الواقع بمعزل عن التجسيد والتشخيص. إنه اختيار صباغي ذو علاقة وشيجة باللون، المكشوط والممسوح، والأثر المترحِّل الذي يرسم في عذريته العمق الفراغي في اللوحة الذي يتم التعبير عنه بتدفقات لونية حصيلة استعمال أصباغ وأحبار ومواد سيلانية كثيراً ما تجعل المعنى الظاهري للوحة يتوارى خلف الآثار والبصمات التي فرغتها ذاكرة الفنان في اتصالها بالأرض والجذور والبدايات.
العمق الفراغي في لوحاته حياة وامتلاء ومساحات أخرى مشحونة بطاقة لامرئية..’أليس في الفراغ قوى كامنة’، كما قال ألبير كامو A. Camus في تعليقه على معرض ‘الفراغ’ الشهير المقام بغاليري إيريس كلير Iris Clert وهو للفنان إيف كلاين Y. Klein رائد الواقعية الجديدة (أو ما بعد التعبيرية) في التصوير التي خرجت من رحم مدرسة نيس الفرنسية خلال ثلاثينيات القرن الماضي.
الفنان بوحشيشي بهذا التوظيف الصباغي الفعلاني، وبكثير من التأمل الفلسفي لقيم اللون ومدركاته، يبرز علاقة المكشوف بالمحجوب، أو علاقة المرئي باللامرئي التي يعبَّر عنها في اللغة الصوفية بتجربة التجليات، وهي تجربة جدلية وجودية بين الظاهر بالباطن..والحاضرباالغائب..والرؤية بالرؤيا..إلى غير ذلك من الثنائيات التي ترسمها العين واليد في علاقتهما بالسند..
فاليد عقل، إذ يمكنها أن تمسك شيئا ما وتعيد تشكيله كما يفعل العقل. أما العين/ العينان، فتنبت/تنبتان في مركز الوجه، وهي/هما بؤبؤة الجسد بتوصيف شعب اليوروبا في بنين ونيجيريا. كما أن ‘الذي لا يدخل من العيون لا يصلح للروح’، كما يقول الإسبان.
تتحرَّك يدا الفنان، إذن، في تشكيل اللوحة مثل عين الفوتوغراف الباحثة دوماً عن لحظات شاردة وهاربة ليتم القبض على انفلاتاتها ومتلاشياتها..ألم يقل رائد الانطباعية في التصوير كلود مونيه: ‘كذلك العين يد’؟ عين الفنان إذن هي يده (يداه)، واليد هي حاملة سرائر المادة والتقنية في هذه التجربة الصباغية المفتوحة على بلاغة الأثر وشعرية اللون المترَحِّل في أبعاده البصرية التعبيرية والجمالية التي تقول كل شيء وتخفي كل شيء في آن.


 
gnews

أحدث الأخبار



 




الأكثر مشاهدة