السبت 20-04-2024
الوكيل الاخباري
 

البيزنطي الأخير



 بعد اجتماع مطوّل مع حالي، قررت أن أترك ورائي آثارا تشابه الآثار الرومانية والبيزنطية. كان عمري آنذاك فوق الخامسة وأقل من العاشرة، لكني لا زلت اذكر ذلك اليوم تماما وأعيشه كل لحظة تماماً.اضافة اعلان

بيتنا يجيء وسط حارة حبلى بالفسيفساء، وكانت مريم ام خنانة لا يحلو لها سوى (تقبيع) الفسيفساء الملونة من اللوحات مباشرة لتلعب (الزقطة) مع حالها، لأن لا أحد كان يرضى أن يلعب معها.
  وعلى قاعدة ما حدا أحسن من حدا، وبثقة مبالغ فيها (قليلاً) قررت بسابق إصرار وترصد رسم لوحة فسيفسائية وأن أدفنها في التراب لتكتشفها الأجيال القادمة وتشير إلى نسلي بالبنان (وليس بغيره) !!
  هكذا شرعت في تفتيت ما تيسر لي من (ديكان) وبسرقة بعض (ديكان) مريم تحت شعار الادعاء بأني ألاعبها، ولم يكن يهمها ذلك في الواقع إذ كانت غالباً ما (تغير) على أول لوحة فسيفسائية وتعوض النقص الحاصل في ديكانها!!
للعلم كنا نسمي تلك الحجارة المكعبة (ديكان) ولا اعرف لماذا طبعاً !!

هكذا رسمت لوحتي الخاصة مستخدماً أسلوب الفن التجريدي دون أن اسمع به. مجرد حجارة ملونة متلاصقة، تم تثبيت الحجر بواسطة اعتماده على ثبات الحجارة الأخرى .. (عفوية الفن، وعبقرية البساطة) ثم دفنتها في وسط الحوش الذي كنا نربي فيه الدجاج والأرانب والحيايا.

تلهيت عن لوحتي الفسيفسائية حتى المساء ونمت أحلم بالشهرة والمجد والسؤدد. وفي الصباح قمت مبكرا لأتفقد لوحتي.

كانت الدجاجات قد خرجت أبكر مني ونبشت الحوش ونثرت الورس في كل مكان، لكن ذلك لم يمنعني من نبش التراب بحثاً عن اللوحة.

نبشت هنا .. هناك ..على اليمين ..على الشمال فوق تحت ، بالطول ، بالعرض .. بحثت في كل سنتمتر في الحوش لكني لم أجد اللوحة.
هل سرقها الأعداء، هل خشي البيزنطيون على سمعتهم فاختلسوها، هل وجدتها مريم أم خنانة وأعادت (تدويرها) ؟!
لم أتوقف عن البحث منذ ذلك الزمن العتيق لكني لم أجد شيئا.

نهاية السبعينات وقد صرت شابا، قررنا أن نهدم البيت القديم ونبني بيتاً جديدا .. جاءت الجرّافات ونبشت الحوش، وكادت الجرافة أن تقتلني وأنا اتابعها لعلي اعثر على لوحتي.

 لم أعثر على شيء. وما زلت مستمرا في التنقيب، وأنوي الاستمرار في البحث عن لوحتي الفسيفسائية حتى أتركها للأجيال القادمة!!
(من كتابي الجديد «البالون رقم10»)