الجمعة 26-04-2024
الوكيل الاخباري
 

ذكريات 23



جاءني كتاب النقل من مدرسة سويمة إلى معان فتلقفته بلهفة وامتنان.

ذلك أنني عشت نحو سنتين من سني طفولتي في معان ودرست فيها صفين ابتدائيين وعشت في كنف أخوالي الخوالدة- آل خطاب كرام الناس، أميرا مدللا، تحفني العناية والرعاية، أجد لي في عشرات البيوت مودة وحنوا وترحابا.اضافة اعلان


وكما عشت طفلا في بيت جدي في معان، سكنت شابا في بيت خالي إبراهيم ابو عادل نائب معان الفارس الجسور.

تم تعييني، معلما للغة الإنجليزية والرياضة، في مدرسة فلسطين بمعان.

اعتُقل المعلم البعثي، عبد الحميد الذنيبات، الذي كان معلما منفردا في مدرسة بير أبو العلق في الشوبك، فظل طلاب مدرستها شهرين بلا معلم. أعربت عن رغبتي في العمل بالمدرسة إلى حين الإفراج عن المعلم المعتقل.

عصرا، حملني عودة المعاني مدير التربية والتعليم في معان، بالسيارة الرسمية إلى «بير أبو العلق» وطلب مني أن استخدم «يطق» المعلم الذنيبات: السرير والطناجر والبريموس وملحقاتها.

أوصلني الرجل الشديد التهذيب والرفق إلى المدرسة ومضى.

كنا في شهر تشرين الثاني عام 1966، وبرْدُ الشوبك الرهيب في أول تفتحه، وثلج الشوبك الموصوف، في طوره الجنيني.

وجدت في الغرفة سريرا وفرشة ولحاف صوف وصوبة ديزل.

وكنت حملت معي «جركني ديزل ورطل خبز وكروز سجائر كمال وكروز كبريت وعبوة سعة كيلوغرامين من زيت الزيتون وعبوة من الزيتون المكبوس الطازج وعددا من معلبات التونا ماركة الوردة ومعلبات البولبيف البرازيلي الشهير ماركة اكسترا والبيض والملح والسكر والشاي.

وبالتأكيد حملت معي راديو «ترانزستور» وبطاريات إضافية وحقيبة مليئة بالروايات وبدواوين الشعر وأبرزها ديوان المتنبي وديوان الهذليين، الذي فيه أجمل قصائد الرثاء الإنساني بلا منازع، التي يقول في أبرزها أبو ذؤيب الهذلي:

أَمِنَ المنون وريبها تتفجّعُ والدهرُ ليس بمعتبٍ من يجزعُ.

قالت اميمةُ ما لِجِسْمِكَ شاحبٌ منذُ ابتذلتَ ومثلُ مالكَ ينفعُ.

فأجبتها أن ما بجسميَ انه

أَوْدى بنيَّ مِنَ البلادِ وَودَّعوا.

إلى أن يقول أبو ذؤيب:

وإذا المنيّةُ أنشبت أظْفارَها الفَيتَ كُلَّ تَميمةٍ لا تَنفَعُ.

فتحت ثلاث علب تونا أكلتها على الواقف شربت زيتها، تناولتها بدون صحن، بدون ليمون وبدون خبز. اعتقد انني استخدمت اول ليمونة بعد عدة سنوات !!

نمت بعمق لم أعهده، استيقظت نحو الساعة السابعة وتوجهت إلى البئر القريب و»نشلت» دلو ماء غسلت طنجرتين وسطلا من الألمنيوم وضعت الماء فيها ثم وضعت إبريق الشاي على الصوبة.

لاحظت وجود صناديق وعلب مغلقة، فاكتشفت أن غرفتي مليئة بالمواد الغذائية المكونة من الشاي والسكر وأكياس الحليب المجفف وعدس حب وفاصولياء وبازيلاء ناشفة وأكياس صغيرة من الملح وعدد من عبوات المربى ووجدت كيسي طحين.

لعل المعلم الذنيبات يتاجر بالمواد الغذائية.

أفطرت بيضا مسلوقا وبضع حبات من الزيتون، أشعلت سيجارة وتجولت أمام المدرسة في طقس نديّ خرافي النقاء، لدرجة أنني والله العظيم، لمت نفسي على تلويث بيئة بلادي بسيجارتي.

نظرت إلى ساعتي الجوفيال، كانت الثامنة، لم يصل الطلاب بعد. أصبحت الساعة التاسعة والعاشرة والثانية عشرة والثانية بعد الظهر ولم يأتِ الطلاب.

ذهبت إلى القرية فلم أجد فيها أحدا. كنت وحيدا في تلك البقعة الجبلية الباردة.

مرت أربعة أيام لم أشاهد خلالها إنسيا. ولم أتحدث مع احد. بلغ ضجري وتوجسي وترقبي مداه.

كان معي مسدس «بيرتا» اشتريته من معان بسعر 30 دينارا بالتقسيط المريح، دينارين شهريا، بكفالة الخال أبو عادل، تحوطا من الوحوش التي تتحرك على شكل مجموعات والتي حذرني منها هاني سكر ومحمد عوض كريم ومحمد عطية اخو عميرة وعدد من الأصدقاء.

ذات عصر لمحت خيّالا يتحرك على بعد كيلومترات، لوحت له بيدي فلم الفت انتباهه. أطلقت طلقتين في الهواء. توقف وتوجه نحوي.

تغدينا مربى وتونا وبيضا مقليا بالسمن البلدي، كان الرجل يحمله.

قال لي إن الأهالي يغادرون القرية بطلابهم وأغنامهم وخيولهم وحميرهم ودجاجهم وكلابهم، في بداية الشتاء إلى المناطق الغربية الدافئة «المدافي». وقال إن الأهالي لا يعلمون بعد عن عودة المعلم إلى المدرسة.

بعد يومين طويلين من الانتظار جاء فرج الله. وصل الطلاب ومعهم عجوز وبغلان يحملان متاعا وطحينا، سكن الطلاب العشرة في بيت واحد مكون من «قَطْعٍ» كبير ومعهم العجوز التي اوكلت إليها مهمة الخبز والطبخ للأطفال: العدس والجريش والرشوف.

عرفت من الخيّال أن المواد الغذائية الموجودة في غرفتي هي تبرعات من جمعيات خيرية دولية لطلاب القرى الفقيرة.

كان المعلم يوزع المواد الغذائية على الأهالي في مطلع كل شهر. فقررت أن أغير النظام الذي لا يحصل الطلاب بموجبه على إذن الجمل.

نقلت مقاعد الطلاب من الغرفة الأخرى ذات الزجاج المكسور التي تشبه «الفريزر» في شدّة برودتها، إلى غرفتي وأصبحتُ ادرّس الطلاب فيها.

على الساعة العاشرة صباح كل يوم، بما فيه يوم الجمعة، كنت اقوم بغلي الحليب المجفف في الطنجرة الكبيرة، على بريموس المدرسة الضخم، واسكب للطلاب في أكواب كبيرة، الحليب الدافئ المحلى وهم يتحلقون حول الصوبا ووجوههم غاية في الطمأنينة والاحمرار.

كان ثلاثة من الطلاب في الصف الثاني وثلاثة في الصف الثالث وثلاثة في الصف الرابع وطالب في الصف الخامس.

(ما أغنى وأقوى البلد التي تفتح مدرسة وترسل معلما لعشرة طلاب في قرية مقطوعة في مطلع ستينات القرن الماضي !!)

بعد قليل هطلت ثلوج الشوبك كثيفة بلا انقطاع لمدة ثلاثة أيام، فوصل ارتفاع الثلج إلى نصف ارتفاع باب الغرفة.

لم يأتِ الطلاب فذهبت إلى مسكنهم للاطمئنان عليهم، وصلتهم شبه متجمد، فوجدت العجوز قد أشعلت حطبا في الغرفة التي يتعذر أن يرى من فيها ابعد من أصابعهم.

ناولتني رغيف خبز ساخنا وقطعة من السمن البلدي وألقت عليّ فروة ثقيلة كانت تنام فيها.

مر وقت قبل أن اشعر بالدفء، أصر الطلاب على أن أنام عندهم، فنمت!

سهّرتهم وحكيت لهم كيف هو العالم في الخارج، ورويت لهم قصصا عن تاريخ المنطقة، عن المؤابيين والآدوميين والأنباط الذين تبعد مدينتهم البتراء عنهم، مسافة 25 كيلومترا فقط.

استأت عندما علمت أنهم لم يزوروا البتراء، فاستأجرت لهم، عندما حل الربيع، «بكبا» بدينارين ذهابا وإيابا، حملَنا إلى البتراء، حيث أمضينا يوما كاملا نتجول بين آثارها ونتعرف على تاريخها، من دليل سياحي شهم، يملك مطعما صغيرا أصر على أن يدعونا اليه لتناول طعام الغداء المكون، حسب إصراري، من ساندويشات الحمص والبطاطا المقلية والفلافل وزجاجات كازوز سحويل، التي كان الطلاب يشربونها للمرة الاولى في حياتهم !

أصبحت امضي «الويك إند» في ركوب الخيل من قريتي «بير ابو العلق» الى وادي موسى والبتراء حيث أنام ليلة في الفنادق الشعبية. أو امضي العطلة في ضيافة المعلم محمد الملكاوي في بير الدباغات، التي تبعد عني 5 كيلومترات، كلما سمح لي الطقس بالحركة.

كنت أتحرك بعد ظهر يوم الخميس وأنام في الدباغات ليلتين وأتحرك عائدا إلى طلابي ومدرستي صباح يوم السبت، فامشي المسافة الفاصلة بين المدرستين، والندى يبلل رموش عينيّ. اصعد المرتفعات واهبط المنحدرات، في الطريق الترابي الفاصل بين القريتين متحزّما بمسدسي البيرتا.

لاحقا استبدلت المسدس ببندقية خرطوش، اصطدت فيها حجلا بالعشرات، كنا نعكف أنا وزميلي الملكاوي على نتف ريشه وتنظيفه ثم نشويه على حطب البلوط واللزاب ونأكل أشهى «باربكيو» تناولته في حياتي.

كان العالم والناس على نقاء وصفاء وفطرة لا تضاهى. وعلى براءة أخّاذة. وعلى عفوية فاتنة. وعلى ودّ باذخ.

وما يزالون.