الخميس 25-04-2024
الوكيل الاخباري
 

عن عبد الهادي المجالي: الطود الذي طاح



أكتب عن عبد الهادي المجالي بنيّة تسليط الضوء على ذلك الجانب الذي قد لا تتوقف عنده معظم الكتابات وهو بالنسبة لي ما يجعله الأكثر تميزا وفرادة بين جميع  من تداولوا على المناصب والأدوار العليا العسكرية والمدنية. لقد انفرد أبو سهل بصورة مثيرة للدهشة عن النهج المألوف لدى رؤوساء الحكومات ورؤوساء الاركان والأجهزة الأمنية وكبار الوزراء ورؤساء مجالس نواب والأعيان ومن ماثلهم في المناصب والمسؤوليات انفرد بما جعله ظاهرة مثيرة للدهشة كما سأبين بعد قليل.اضافة اعلان

ينتمي الباشا عبد الهادي المجالي زمنيا الى الجيل القديم  من المسؤولين فقد ختم مسيرته المهنية الى أعلى مرتبة رئيسا للاركان عام 76. فماذا يبقى بعد ذلك؟ مثل كل رؤساء الاركان السابقين أن يجلس عند قهوته ودلاله وينتظر ان يصبح عينا مثلا. لكن الرجل يبدو كما لوانه يبدأ مرحلة جديدة طازجة كل مرة وبعد ان تولى لفترة منصب السفير الاردني في الولايات المتحدة جاء مديرا للأمن العام ليعلن عن مشروع فلسفة جديدة شاملة للأمن فقاد بكل حيوية جهاز الشرطة التقليدي نحو التحديث والعصرنة. وأذكر بالنسبة لنا ونحن على الضفّة الأخرى من المشهد في المعارضة السياسية السرية عام 1985 أننا قرأنا في مشروع « الأمن الشامل». الذي اطلقه معنى « القمع الشامل « والحق ان ما كنا نراه رجل القبضة الأمنية السلطوية كان شخصية قيادية مجددة.
بعد التحول الديمقراطي عام 89 كان على رأس الشخصيات التي بدأت مرحلة جديدة وتفكيرا وممارسة جديدة. أسس المجالي حزب العهد وفعل كذلك العديد من كبار المسؤولين من المرحلة السابقة وخاضوا الانتخابات النيابية أيضا بإعتبار ان هذه هي ادوات المرحلة الجديدة للوصول الى المناصب والمسؤوليات. لكن الجميع بدأ تدريجيا بالتخلي عن هذا الطريق اذ تأكد ان النظام باق على النهج القديم إلا عبد الهادي المجالي الذي ظلّ يكافح ليس بالدعوة النظرية بل بالممارسة لبناء حزب وطني كبير يطمح ان يكون الحزب الحاكم لمرحلة الديمقراطية الناشئة، حيث يتحقق التداول السياسي الحزبي على السلطة التنفيذية. وكان المبادر والقائد لعملية توحيد ما اطلق عليه الأحزاب الوطنية وأوصل زملاءه من كبار المسؤولين المعروفين للاجتماع تحت سقف واحد واطلاق «الحزب الوطني الدستوري».. لكن الأغلبية لم تلبث ان خذلته ومضى كل في سبيله.
عام 1996 اصبح وزيرا للاشغال في حكومة عبد الكريم الكباريتي. اجتمعا طودا ونمرودا كان يمكن الحكم سلفا على استحالة التعايش بينهم. وتحت الضغط وافق المجالي على مضض أن يكون وزيرا للاشغال ثم في العمل اكتشف كل واحد ميزات الاخر وفي المقدمة الفروسية والرجولة والثبات وعندما زلزلزلت الأرض تحت اقدام الكباريتي لم يتراجع المجالي ولم يتوار ولم يطعن بالظهر وقد سمعت من الاثنين تقييما ايجابيا صادقا للآخر.
ظل المجالي مثابرا على فكرة الحزب السياسي واعاد الكرّة باطلاق مشروع « التيار الوطني» الاسم الذي يحمل الطموح لتجميع اكبر عدد من القيادات والأعضاء في اطار سياسي يضاهي ويتفوق على التيار الاسلامي. وتوفر الحزب على عدد وافر من القيادات بينها نائبه في قيادة الحزب رئيس الوزراء الأسبق فايز الطراونة. ثم أمكن  تحت رئاسته لمجلس النواب جمع ما يوازي ثلثي النواب في كتلة التيار الوطني وبدا كأن الحلم يتحقق ثم مثل كتلة ملح في الماء ذابت الأغلبية وتشتت الناس وقيل ان الضوء الأخضر للتيار الوطني قد عاد أحمر.
للمرة الألف عانى عبد الهادي المجالي من الخذلان لكنه لا يستسلم ابدا. وكان ثباته على « تجارة خاسرة « مثار دهشة كثيرين، فما الذي يجبره على تنكب هذا الطريق وهو قد مرّ على مختلف المناصب دون حاجة للطريق الحزبي. لعله لم يحصل بعد على منصب رئيس الوزراء لكن .. وهنا نقطة اختلافه الجوهري عن الآخرين.. هو لم يفكر بالتخلي عن السياسة لينطر لحظة استدعائه ذات يوم. كان يريد ان يصل بنفسه كزعيم للأغلبية البرلمانية الحزبية وكان على ولاء ثابت لفكرة سياسية يكررها وهي ان الدولة يجب ان يكون لها حزب سياسي يحكم ولا ينفع بقاء نفس الاداة الأمنية الخاصّة بالمرحلة العرفية. ولذلك كان مهتما اكثر من اي مسؤول آخر بموضوع الاصلاح السياسي وقانون الانتخاب وخارطة الطريق الممكنة للوصول الى أحزاب برلمانية رئيسية يتصدرها حزبا وطنيا كبيرا.
 لم يتخل عن الفكرة طوال رئاسته لمجلس النواب لكنه كان محاطا بأنصار لا يفقهون شيئا ولا يعنيهم الأمر. ولا بدّ انه كان يعاني من هكذا قاعدة من الأنصار الخلّص الذين لا يرون مهما سوى استثمار النفوذ لمكاسب ومناصب وامتيازات.وعندما كنت التقيه في المجلس بحضور عدد من الشخصيات أو النواب ونتداول في صيغ التغيير لقانون الانتخاب - وهو كان مقتنعا ومعجبا بالنظام الألماني المختلط  بعد زيارة دراسية لوفد برلماني برئاسته -  كنت وأياه كمن يغرد خارج السرب. والنواب حوله يسخرون تقريبا من اهتمامه واصراره على هذه الأفكار.  والحال أنه لم يتخل عن فكرته حتى آخر دقيقة بما في ذلك مرحلة المرض الشديد وعودته من رحلة العلاج في لندن.
وعندما جاء تغيير القانون ليمنح القوائم الوطنية  27 مقعدا خاض مجددا الانتخابات عام 2013على رأس قائمة التيار الوطني وحصل على مقعد واحد وكانت صدمة قاسية جدا. وقد زاملته في ذلك المجلس ( السابع عشر) وكنت ارقب بأسى تداعي الصحة الجسدية لهذه الشخصية المهيبة  الوازنة الرزينة، وهو يعتمد على عكاز  ويمشي بتؤدة تحت القبّة التي طالما تسيد رئاستها، يجلس في الطرف البعيد قرب المدخل دون شلل المريدين السابقين، يحرص على حضور معظم الجلسات ويداخل قليلا مثل اي عضو آخر.  
طوال الوقت ومع زعامته المهيبة كان ايضا شخصية خلافية طالتها اسهم التجريح بلا انقطاع مع شبهات الفساد والاثراء الفاحش لكنه بعكس شخصيات كثيرة اخرى كان بحرا في سعة صدره، لا يردّ ولا ينتقم، ولم يرفع أي قضية على صحفي. ومع مظهره الذي يقطر سلطة وهيبة كان دمثا ودودا، كان كبيرا على الأحقاد والنكايات والخصومات وقد سخر امامي مرة من حكاية المليار الذي قيل إنه احتفل به. المهم جاءت الساعة وانتقل الى دار الحق فعلمنا الحقيقة انه مات مدينا، هذا ما قرأناه والمؤكد ان أملاكه كانت اقل قيمة من ديونه. نترحم على روح هذا الرجل الاستثنائي من رجال الأردن. وقد عزاني ان علمت ان مذكراته مكتوبة ومكتملة للنشر فلا يضيع شيء من ارثه الكبير.