في العالم الصناعي حيث يتلاشى التخبط والمحاولات واعادة انتاج الماضي اصبح القياس مهما في توجيه العمل والخيارات والاحكام فمن غير الممكن ان تتحدث عن اي شيء بموضوعية دون التمكن من قياسه او امتلاك البرهنة على صحته. جميع الاعمال والقرارات والتقارير والعروض التي يجري اتخاذها او تقديمها تشتمل على معايير ومؤشرات كمية «رقمية». فالارقام هي الوسيلة للتقدير والمقارنة والحكم وبغير ذلك يصبح الحديث ضربا من الادعاء والسفسطة والكلام الذي لا يستحق الاستماع اليه او التوقف عنده.
هذه الخاصية التي ارتبطت بالتقدم بعيدة عن الكثير من مجالات حياتنا وحتى خطاباتنا فكثيرا ما نستعيض عن الارقام بجمل واوصاف وبديع لغوي ومسايرة لخلق انطباع حول عبقريتنا وانجازاتنا التي يصعب ان يجري البرهنة عليها بالمعايير والارقام.
من وقت لاخر نسمع بعض المسؤولين يتحدثون عن ارقام قياسية في الانجاز والعمل والسبق والرضا والمهارة دون ان نرى دليلا على ذلك او نجد من يدقق او يبرهن فيما اذا كان ذلك زعما او حقيقة. في بلادنا تاتي المبالغة والاشادة والغضب والصراخ لخلق الانطباع بان ما يقال صحيح في حين لا توجد جهة او مرجعية للتدقيق او الفلترة لهذه الاقوال والادعاءات.
الزعم الذي يسود في مجتمعاتنا له مظاهر متنوعة فبعضهم يتحدث عن عبقرية الابناء الذين كان كل واحد منهم الاصغر سنا في صفه لكنه الاذكى والاكثر ابداعا . وعن الابن الذي كان يحفظ كل الكتب غيبا وتقاتلت عليه الجامعات ليصبح اول من حمل شهادة التخصص في الميدان الذي يعمل فيه. حجم الادعاء غير الخاضع للتدقيق قد يدفع بشخص متوسط او عديم الكفاءة لاختراق كل مؤسسات البلاد مدعيا ان لديه عبقرية وفهما وحلولا لا يعلم بها الى الله .
استاذ وعالم الاجتماع الاميركي راندل كولنز امضى عشرات السنين في دراسة المجتمعات التي تطلق احكاما اعتباطية على قدرات الاخرين والاخرى التي تعنى بالقياس والتوثيق واصدر كتابا مهما في ثمانينيات القرن الماضي تحت عنوان «The Credential Society» ليشير الى ان المجتمعات اليوم تتجه الى قياس كل شيء ووضع الخبرات في قوالب قابلة للقياس واخراجها من دائرة الزعم والانطباع.
في العام 1955 حدث تحول كبير في ميدان القياس وولدت مؤسسة غينيس للارقام القياسية التي اخذت على عاتقها قياس واختبار وتسجيل ونشر الارقام القياسية لتقدم معايير يستدل منها القارئ على الانجازات والموجودات والكائنات وبدأت بتسجيل الارقام القائمة والجديدة لكل ما يهم الانسان وتصدر كتابا سنويا يشتمل على عشرات الاف الارقام القياسية في كل الميادين والمجالات لتنشر معارف ومعايير ومؤشرات مشتركة بلغات متعددة وليعرف الناس حول الكرة الارضية ما ينجزه غيرهم او ما تمتاز به الاقاليم والثقافات والشعوب من خصائص وسمات وابعاد قد لا تكون مألوفة لابناء الثقافات الاخرى.
المستويات التي يمكن ان يصل اليها اداء الافراد والجماعات في المجالات والحقول والميادين المختلفة اصبحت معروفة وتشكل دليلا توجيهيا وعتبة تساعد الافراد والفرق والجماعات والاتحادات التي تتولى التنظيم والمتابعة والتدريب على وضع الاهداف لتجاوزها او استخدامها للتعرف الى مستوى الاداء وتصنيف القدرات والمهارات وتحديد ما يلزم من جهد وعمل للوصول اليها وتخطيها.
في اقتصاد العولمة افادت الكثير من الشعوب من مؤشرات الاداء العالمية والارقام القياسية وعملت على تطوير ادائها وبرامجها ومنجزاتها لتحقق المزيد في حين لم تتمكن اخرى من مغادرة مربع التمثيل والاوهام والزعم الذي لا سند له.
-
أخبار متعلقة
-
لا يمكن هزيمة الكاتب (2-2) عبدالجبار أبو غربية نموذجاً ومُلهِماً !!
-
النمو الاقتصادي السعودي وفي الخليج العربي
-
اتهامات للأميريكيين في عمان
-
نحنحة
-
أسرى لكن برغبتهم ..!!.
-
لا يمكن هزيمة الكاتب (1 - 2) هشام عودة نموذجاً وملهِماً !!
-
إلى متى ستحتمل الضفة الغربية؟
-
اليوم عيدُ ميلادي